Thursday, March 31, 2016

الجزء الثاني

ارتبك أحمد من غفوته يلتفت يمينا و يسارا، “من هنا؟؟”
ظهر من خلف الشجرة رجلا مستديرا، “لا تفزع، أظننت انك وحدك تأتي هذه البقعة مستكينا ظلالها؟” اعتدل الرجل من استلقائه و توجه لأحمد.
“أنا ايضا ذاك الأحمد، استحوذت الشمس علي جسدي في بقاع هذا الريف، كنت ادور بين البيوت بحثا عن غايتي. و إذا تعبت  آتي هنا كي تتسلل أعبائي لتراب الارض. لم أعي كم دارت الايام حتي رأيت يوما ثمار ما ظننته غفوتي.”
علو صوت الهواء بين الاغصان و كأنه الجموع يصيح متمما كلامه شاهدا علي الاحداث. تنهّد الرجل و استكمل..
“مضيت سنينا مترقبا و لم اعانق الحياة قط. كان الوادي وجهتي و الارض محيطي، لم تكن قد تآكلت بزحف البنيان حينها. أجرف، أزرع، أسقي و أحصد كل يوم و لم اعي لماذا، الواقع انني لم اكترث. كانت هذه سنة المعيشة و كغيرها من الاشياء تداولت بالفطرة و لم يتسائل عنها احد.
اسير في الدروب كل يوم، مترنحا من لفحة الشمس حتي استوقفني يوما ظلال، ظلال يميل في سكون بارد علي جسدي، يتوسط الطريق وحيد. شجرة كونت بقعة صغيرة منفّرة سكرات الشمس. وقفت للحظة و لم ارد المضيّ.”

-قمت من مجلسي بعدما استكان الظلال الرطب علي جسدي. “يجب ان امضي قبل نزول الشمس، الاهالي ينتظرون و النهار باقي فيه ساعات.”
سرت في زقاق تحفّه بيوت صغيرة من طوب، علي وضعها منذ بنيت، لا يدفئها الوان طلاء. يجاور البيت شجرتان ماهوجني تؤازِران من وحشة الطوب الحراري. خرج من إحدي البيوت رجل في منتصف عمره، اسمر اللون، ذائبا في جلبابه ناصع البياض و يكسو وجهه ابتسامة ترحاب. “تفضلي يا بشمهندسة” داعيا إياي لساحة بيته الصغيرة المظللة.
بيته اختلف عن البقية، رغم بساطة خاماته كغيره، لكن تهيّأ فيه الاهتمام و العناية (علي قدر مستطاع)؛ بعض الطلاء المزيّن للمدخل، ساحة رفيعة مظللة بعيدان الخشب و القش، و دكة طينية تحفّها شجيرات صالحة للأكل لإحتساء الشاي في امسية عليلة. 
“كيف لي ان اساعدك يا حج؟”
“لا اريد شيئا شكرا، اريدك ان تستظلي في ساحتي البسيطة و تحتسي شيئا يرطب جوفك.”
خجلت من كرمه، فجلست لاحتسي بعض الماء ،رغم ضيق الوقت، تحت ظلال ساحته. نظرت امامي لأجد اراضي واسعة، خضار لا متناهي يلتحم مع زرقة سماء متوّجة ببعض السحاب. عجبت لهذه الساحة البسيطة اللتي تطل علي وجهة للقصور.
 
-“ماذا وجدت في هذه البقعة؟” سأل احمد مستنفيا شرود الرجل.
“وجدت الطريق أمامي…”
   

Friday, March 11, 2016

الجزء الأول

مال الغصن يحجب عنّي سكرات الشمس، جلست برهة لألتقط أنفاسي متكئة علي جدار بيت من طين. لونه سماء زرقاء، متوّج بمثلث اصفر يحنو بصفار الرمال البعيدة.

أحمد، ابن أحمد، صبي القرية دائما أحمد، أحمديّ الدين بالوراثة. “شكّ” بذرة هذا الظلال. أتذكره حامل جاروفه سائر خلف أمه مار بالبيوت. “يا ام أحمد، عايزة تشكّ الزرعة؟” تصيح ام أحمد داعية اهل القرية. و يقوم أحمد بجرف حفرة تلو حفرة، مستدعيا قوي جسده الصغير في عدة ضربات حتي يصل الي العمق المناسب، يضع شتلة الماهوجني و يغمرها بالماء. و إن لم يتوافر الماء ينحدر بخفة جسده النحيف الي المجري الضحل يملأ السطل بالماء.

أحمد لا يتكلم كثيرا، لا اتذكر صوته، و لكن علو في عينيه مروئته. كَبُر عمره عن سنه و دفن ذاته بتربة الارض. تعاكس الشمس ملامحه و تبرق عيناه في جسده الاسمر الترابيّ.
انتهي من الجرف عند آخر القرية تاركاً اهل البيوت ضاحكين من خضرة الاوراق الصغيرة المتلاعبة، متكئيين علي أمل استقامة الغصن. و كأن هذه الزرعة هي البستان المجمل لطريق بيتهم الرملي و ظلالها سيكون السقف الناقص لمنامهم.
“الله يسعدك يا أحمد”

مشي أحمد يجر جروفه من التعب، تاركا أمه تحاكي النسوة، في زقاق بدء بنهاية البيوت الصغيرة، يحفّه شريان مياه ضحل  أفاقه خضرة المحصول. سنابل القمح مترنحة مع هفوات الريح الخفيف. ترك جاروفه عند حافة الزرع و مشي فيه متخللا اغصانه حتي القي جسده علي بساط الطين البارد بظلال اذرع الشجرة.
غمض عينيه عن ما حوله،ترك عنانه لنسيم الهواء و برودة الطمي تسحب من جلده لسعات الشمس. فتح عينيه علي تداعب الشمس بين اغصان الشجرة و تنهّد.
 “آه…”

-“يوم متعب؟”
“آه…” رد أحمد و عيناه منغلقتان. سكت، ثم انتفض عِلما انه كان وحيد الاستلقاء، التفت و نظر حوله في كل الجهات و لم يجد احد بالفعل.
“لعلّني غفوت.” 

-“لم تغفو…”